منذ 28 عاما، كتبت مواضيع عن سحب الدم لأول مرة، وعن الألم الذي يشعر به المريض، وعن عدم الثقة بالذات لدى طالب الطب. وفي أول خبرة لي داخل العيادة، كنت أتعلم شفرة لونية جديدة غريبة: الأنبوب ذو القمة الحمراء لكيمياء الدم، والأنبوب ذو القمة الأرجوانية لعلم الدم «هيماتولوجي»، والأنبوب ذو القمة الخضراء والصفراء.. إلخ.
وفي طب الأطفال، سرعان ما اكتشفت أن الألوان هي الألوان نفسها ولكن
الأنابيب نفسها أصغر بكثير، وبدلا من تلك الإبر الكبيرة التي تعلمت أن
أستعملها مع البالغين، كنا نستعمل الفراشات، وهي عبارة عن حقن ذات أجنحة
بلاستيكية تمنعها من الحركة.
وقلت لنفسي: إذا كان يمكننا أن نحصل على كمية كافية من الدم بواسطة إبرة
فراشية صغيرة تملأ أنبوبا صغيرا لإجراء الاختبارات اللازمة، فلماذا يجب أن
نغرس إبرة كبيرة في البالغين ونملأ أنابيب كبيرة نسبيا للقيام بالاختبارات
نفسها؟
ولم تكن هذه آخر مرة أتساءل فيها لماذا يعالج الأطفال بعناية أكثر من
البالغين، والآن يبدو واضحا أن الاتجاهات التي ظلت لفترة طويلة من المسلمات
في العناية بالأطفال، تنتقل للاستخدام إلى البالغين أيضا.
طب الكبار
* لنتحدث عن تلك الأنابيب الكبيرة. في مقالة نشرت سنة 2011 في مجلة
«أرشيفات الطب الباطني» (Archives of Internal Medicine)، توصل الباحثون
إلى أن البالغين الذين يدخلون المستشفى بسبب تعرضهم لنوبات قلبية وتسحب
منهم كمية أكبر من الدم يكونون أكثر احتمالا للإصابة بالأنيميا (فقر الدم)
أثناء وجودهم في المستشفى، والمرضى الذين يصابون بتلك الأنيميا يكونون أكثر
عرضة لخطر الوفاة.
وقد أخبرني د. ميخائيل كوسيبورود، أحد واضعي الدراسة واختصاصي أمراض القلب
بمعهد «سانت لوك ميد أميركا لأمراض القلب» في مدينة كنساس بولاية ميسوري،
أن هذه النتيجة فاجأت بعض الأطباء، حيث إن متوسط كمية الدم المسحوب لا يبدو
كبيرا بما يكفي لإحداث الأنيميا لدى البالغين الأصحاء، حيث سحب من المرضى
الذين أصيبوا بالأنيميا أثناء الدراسة 174 ملليلترا من الدم في المتوسط
خلال فترة وجودهم في المستشفى وإن كان بعضهم سحب منه كمية أكبر بكثير، ولا
يمكن أن يؤدي سحب مثل هذه الكمية من الدم إلى الإصابة بالأنيميا لدى البالغ
الذي يتمتع بصحة جيدة، لكن هذا الاحتمال يزيد في حالة من يعانون مشكلات
صحية أو وهنًا في الجسم.
ويضيف أن المستشفى الذي يعمل به، مثل كثير من المؤسسات الأخرى، أصبح الآن
يستعمل أنابيب أصغر حجما - ليست الأنابيب الدقيقة في الحجم، التي تتطلب
تعاملا خاصا، بل حجم أصغر يمكن استعماله بصورة طبيعية داخل المختبر.
إذن؛ لماذا كان هناك من يستعمل أنابيب أكبر حجما إذا كانت الأنابيب الأصغر
حجما تصلح أيضا لأداء العمل نفسه؟ يقول د. كوسيبورود: «كل ما في الأمر أنه
لم يخطر ببال أحد استعمالها مع البالغين. لم يكن ينظر إلى الأمر باعتباره
أمرا يستحق الاهتمام».
خوف الصغار والكبار
* ويقول د. برادلي موناش، وهو طبيب أكاديمي في جامعة كاليفورنيا بسان
فرانسيسكو ويعمل في جناحي طب الأطفال والبالغين: «هناك أمر ما في جوانب
العناية بالطفل يؤثر في الناس. هناك أمر ما في العناية بالأطفال يتعامل معه
الناس بشكل مختلف»، فالألم والخوف اللذان يشعر بهما الأطفال تجاه سحب الدم
منهم، على سبيل المثال، يؤثران في الغالب على عدد مرات طلب الأطباء عمل
فحوصات لهم.
ويضيف موناش أن «الخوف مقبول في طب الأطفال أكثر بكثير مما هو مقبول لدى
البالغين. هناك أشياء كثيرة يمكننا استعارتها من طب الأطفال وتحويلها إلى
الطب العادي».
مثلا، حين يدخل الأطفال المستشفى، نتفهم تماما أنهم خائفون، فهم يرون مكانا
غريبا، وإجراءات مؤلمة، وغرباء يمسكون إبرا؛ كل هذا بالإضافة إلى الإحساس
الأصلي بالمرض أو الألم. ونحن نتوقع عادة أن يبقى الآباء والأمهات مع
أطفالهم في الغرفة نفسها في المستشفى، وأن يحضروا معهم أغطية وكراسي قابلة
للفرد والطي من أجل النوم عليها. وحين تتطلب حالة الطفل إجراء جراحة، فنحن
نعدهم بمرافقتهم طوال الوقت والحرص على راحتهم.
تقول فلورنسيا كاتانزارو، مسؤولة التنسيق في برنامج «حياة الطفل قبل دخول
المستشفى» بمستشفى بوليفو بمدينة نيويورك، إنهم يقولون للأطفال إن
«الوالدين سيذهبان معهما إلى غرفة العمليات وسيبقيان معهم إلى أن يستغرقوا
في النوم».
وعادة ما يسمح للوالدين بالذهاب إلى غرفة الاستشفاء، حتى يمكن للأطفال
رؤيتهم حين يستيقظون أو بعدها بفترة بسيطة. ولكن هل يكون البالغون حقا أقل
خوفا ورهبة وارتباكا؟
بالنسبة للجراحات التي تجرى للبالغين، ليس من المعتاد أن تعد بأن يظل معه
شخص في غرفة العمليات إلى أن يغرق في النوم، أو أن تسمح بوجود أفراد الأسرة
في غرفة الاستشفاء. صحيح أن مستشفيات كثيرة تسمح ببقاء أحد أفراد الأسرة
طوال الليل مع المريض البالغ، لكن السياسات تختلف من مستشفى إلى آخر ومن
جناح إلى آخر.
يقول د. موناش: «نحن نستضيف أفراد الأسرة بصورة أكبر كثيرا في طب الأطفال.
ليست لدينا ساعات مخصصة للزيارة يقوم الجميع بالانصراف بعدها».
غير أن الاتجاه الجديد في طب البالغين هو أن يتم في الغالب تصميم غرف
المرضى الجديدة بحيث تصلح لاستضافة أفراد الأسرة، كغرف الأطفال تماما.
ويبدو لي أنه ينبغي أن يكون في إمكاننا أن نعد أي مريض يدخل المستشفى بأن
أحد الأقارب أو الأصدقاء يمكنه البقاء بالقرب منه، وينبغي أيضا أن يكون
باستطاعتنا أن نعد أي شخص يدخل المستشفى لإجراء جراحة بأنه حين يستيقظ سيجد
بجانبه شخصا يعرفه.
صحيح أن هذا لن يكون على الدوام مناسبا تماما لما هو معتاد داخل
المستشفيات، لكن الدرس الذي نتعلمه من أسلوب الرعاية في طب الأطفال هو أن
المستشفيات سوف تعدل من نفسها. وقد كان هذا غير وارد في طب الأطفال أيضا
قبل نصف قرن مضى.
ويعتبر القول المأثور: «الأطفال ليسوا مجرد بالغين صغار» أمرا أساسيا في طب
الأطفال لدرجة أنه يمكنك أن تبحث في المجلات الطبية وتجده مطبقا مثلا على
العلاجات الخاصة بالكسور في الوجه والفشل الكبدي وعدم انتظام ضربات القلب.
وقد تعلمنا بمرور الوقت أن نكيف الرعاية الطبية مع الوظائف الحيوية
المختلفة لدى الأطفال، وكذلك مع تطورهم الانفعالي.
ولكن حينما يتعلق الأمر ببعض جوانب العلاج الطبي، خاصة الإيداع في
المستشفى، هنا علينا الاعتراف بأن البالغين ما هم إلا أطفال كبار. فالمرض
والألم وشبح الإعاقة والوفاة، وكل تلك الأمور المألوفة في المستشفيات،
تجعلنا جميعا في حالة بالغة من الضعف، في أي سن كنّا، وفي أمس الحاجة إلى
الإحساس بالاطمئنان والراحة. ويعتبر الدم وسيلة تذكير جيدة بأن كل مريض لا
بد من معالجته بطريقة تصون كل قطرة من القوة وسرعة التعافي لديه.