في أي مجتمع هناك أشخاص مصابون بأمراض نفسية أوعقلية ولكنهم لم يصلوا
إلى الخدمات النفسية لأسباب كثيرة ، بعضها لانعدام الخدمات النفسية في
المجتمع ، وأحياناً بسبب عدم الوعي ونقص الثقافة عن الأمراض النفسية في
المجتمعات ؛ فالمريض النفسي في بعض المجتمعات يُعتبر مسحورا أوممسوسا
أومُصابا بعين ، وغيرها من التأويلات الآخرى الغيبية التي يمكن أن تُطلق
على المريض النفسي.
عدم الوعي وانعدام الثقافة بالأمراض النفسية قاد إلى أن
الكثيرين ممن يُعانون من هذه الأمراض النفسية والعقلية يعيشون في المجتمع
دون أن ينتبه أحد إلى أنهم يعيشون حياتهم بصعوبة وسط مجتمع لا يعلم بأنهم
مرضى فيُعاقبهم على أمور قد تكون نتيجةً لهذه الأمراض.
الشخص الذي يجد صعوبة في التكّيف في المحيط الذي يعيش فيه ، سواء في
المنزل مع الأسرة ، أومع أقاربه أومع زملائه أورئيسه في العمل ، ويعيش في
خلافات دائمة مع المحيطين به ، وهذا يفقده الكثير من العلاقات الاجتماعية ،
ويُدخله في دوامة خلافات مع أقرب المقربين له ويستغرب من يُحيط به هذه
السلوكيات ، ولماذا يتصرّف شخص بالغ ناضج بمثل هذه السلوكيات التي تضعه في
مشاكل هوفي غنى عنها!.
هناك أشخاص يُعانون من اضطراب عدم التكّيف ، بمعنى أنه لا يستطيع التكيف مع
الحياة والمتغيّرات في الحياة.
مثل شخص تم تغيير عمله ، فيبدأ في الشكوى
من سوء معاملة زملائه في العمل الجديد برغم أن هذا الأمر ليس صحيحاً ،
ويتذمّر من كل شيء حوله في العمل ، يشعر أن زملاءه في العمل يحصلون على
ميزاتٍ لا يحصل عليها هو، ويكون هذا غير صحيح ، ويُثير مشاكل في العمل وقد
يُفصل من العمر بسبب مشاكله الكثيرة والتي تجعل لا أحد يستطيع أن يتحمّل
العمل معه.
لكثيرون يُرجعون ذلك إلى عوامل غيبية مثل العين أوالحسد أوالجن أوغيرها
من الأمور التي تجعلهم يترددون على المعالجين الشعبيين ، برغم أن هذا لا
يفيد في شيء ولايضع حلاً للمشاكل التي يُعاني منها هؤلاء الأشخاص.
شخص يُعاني من مشاكل في علمه ومع زوجته ومع أهل زوجته وترك دراسته عندما
كان مراهقاً ، تم فصله من عمله ، وبقي عاطلاً عن العمل وعمل في وظائف
بسيطة لأنه لا يحمل سوى مؤهل دراسي بسيطاً ، تزوّج وبعد ذلك أصبح يعيش هو
وزوجته في مشاكل ، أنجب أطفالا وأصبحت الحياة صعبة بالنسبة للزوجة مما
قادها إلى ترك المنزل والذهاب إلى منزل أهلها ورفضت العودة مرةً آخرى له.
عمل مشاكل مع أهل زوجته قادته إلى المحاكم وإدارات الشرطة ووضع أهله في
مواقف حرجة مع أهل زوجته هذا الشخص المضطرب.
الغريب برغم أن له سنوات
طويلة يعيش في مشاكل وسلوكيات غير طبيعية لم يُفكّر أحد من أقاربه بأن
يُعرضه على أي شخص في الخدمات النفسية ؛ سواء كان طبيباً نفسياً أو
اختصاصياً نفسياً أومستشارا عائليا أو أي شخص له علاقة بالطب النفسي أو علم
النفس أوعلم الاجتماع.
بعد أن تفاقم الأمر ذهب به أهله إلى طبيب نفسي ،
وتبيّن من معاينته بأنه يُعاني من اضطراب وجداني ثُنائي القطب.
هذا الشاب
لو أنه منذ البداية تم عرضه على شخص متخصص فربما ساعده على أن تسير حياته
بشكلٍ أفضل. كان يمكن أن يُعالج بأدوية وعلاج نفسي فتساعده هذه المعونة
النفسية على أن يستقر مزاجه ، وربما ساعده ذلك على ألا يقع في مشكلة صعبة
وهي اللجوء إلى تعاطي بعض المخدرات
وهذه مشكلة كبيرة يقع فيها كثير من
الأشخاص الذين يُعانون من مشاكل أو اضطرابات نفسية ، وهي محاولة لما يُعرف
"بمعالجة الشخص لذاته" والذي يسمى باللغة الأنجليزية
"Self-Medication" وهذا خطأ كبير يقع فيه الكثيرون الذين لا يذهبون
للجهات المهنية المختصة بعلاج الاضطرابات النفسية. وأعتقد أنه من المفيد أن
تقوم وسائل الإعلام المختلفة في نشر ثقافة الاضطرابات النفسية وأهمية
العلاج سواء بالعلاجات الدوائية أوالعلاجات النفسية.
لقد تأثرتُ كثيراً عندما ظهر شخص على التلفاز وقال ان الأمراض النفسية
لا تُسبب مشاكل سلوكية أو اختلالا في العقل بل ان ما يُسبب الاضطرابات
السلوكية واختلال العقل هو المس من الجن ، وأن علاج هؤلاء الأشخاص هو
بالرقية الشرعية وليس بالأدوية النفسية!. وأعتقد أن هذا أمرٌ يضر كثيراً
بحياة كثير من المرضى والاشخاص الذين يُعانون من اضطرابات أو مشاكل نفسية.
إن كثيرا من الأشخاص الذين يُعانون من اضطرابات نفسية وأحياناً اضطرابات
عقلية مثل مرض الفُصام والذي قد يكون تأثير عدم علاجه على الأهل والمجتمع
في غاية الخطورة. قبل بضع سنوات كنتُ أحضر عشاءً بعد محاضرة في كلية الطب
بجامعة الملك سعود ، وكان المحاضر والضيف على العشاء في تلك الليلة الشيخ
على العمري ؛ وهو أشهر شخص عُرف عنه علاج الاشخاص الممسوسين ، ولكنه تراجع
عن ذلك ، وكان ذلك بحضور الاستاذ الدكتور عبدالله السبيعي والدكتور مهدي
القحطاني الاستاذ المساعد بكلية الطب بجامعة الملك فيصل آنذاك وبعض الزملاء
من الأطباء النفسيين.
قال لي الشيخ علي العمري بأن شخصاً جاء له ، ليُخرج
الجني من زوجته ، ولكنه بعد أن رأى المرأة وسمع من زوجها قصة مرض هذه
المرأة ، أشار على زوجها بأخذها لطبيب نفسي لأنها لا تُعاني من مس ولكنها
مريضة بالفُصام – الشيخ على العمري أصبح له خبرة بمرض الفُصام وبالهلاوس
السمعية
وأنها هلاوس سمعية وليست أصوات جن كما يعتقد كثير من الناس- ،
ولكن زوجها لم يستمع لنصيحة الشيخ علي العمري وأخذها إلى راقٍ وتدهورت حالة
المرأة حتى أنها قامت بقتل أولادها الثلاثة!.
إن المعاناة التي يعيشها الأهل وكذلك المجتمع من جراء هؤلاء الأشخاص
الذين يُعانون من مشاكل نفسية أو اضطرابات نفسية ، هي معاناة مؤلمة ،
فالمجتمع الذي يضطرب أحد أفراده ، ويؤثر على عائلته وعلى المقربين منه فإن
ذلك ينعكس سلباً على استقرار هذا المجتمع وتمتعه بالاستقرار والهناء.
الأشخاص الذين يُعانون من المشاكل أو الاضطرابات النفسية يجب علاجهم
والاهتمام بهم ، لذلك هناك الكثير من الجمعيات الحكومية والخيرية والتي
تساعد الأشخاص الذين يُعانون من اضطرابات أو مشاكل نفسية ، وذلك لأن اضطراب
شخص أو إصابته باضطراب نفسي له تأثيرة السلبي على المجتمع كما ذكرنا قبل
قليل.
الآن بدأت المؤسسات الخاصة بإعطاء موظفيها فرصة العلاج والذهاب
للمستشارين النفسيين الذين يُساعدون الأشخاص على التغلّب على مشاكل الحياة
التي يواجهونها ، خاصةً وأن بعض الأشخاص الذين يعملون في وظائف مُرهقة
بدنياً ونفسياً قد تتأثر نفسياتهم ، فمثلاً مؤسسة الإذاعة والتلفزيون
البريطاني (البي . بي .سي) تسمح للأشخاص الذين يعملون بها من زيارة عيادة
نفسية كل ستة أشهر مثلاً حتى يُحافظ على اتزانه النفسي وتُقدّم له المساعدة
النفسية فيما لو كان يُعاني من أي مشاكل أو اضطرابات نفسية ، ولم يكن
يُدرك ذلك.
هذا التصّرف ساعد العاملين في البي بي سي في التفّرغ لعملهم
بدلاً من المعاناة من أي مشاكل نفسية أو اضطرابات نفسية. وبعد البي . بي .
سي ، قامت شركات خاصة آخرى بالسير على خطى هذه المؤسسة العملاقة ونصحت
موظفيها بمراجعة عيادات أو مراكز نفسية للحصول على النصائح أو العلاج
النفسي ؛ سواء كان الدوائي أو العلاج النفسي بجميع أنواعه ، بما في ذلك
الإرشاد النفسي أو الأسري.
حسب المعلومات التي تُصدرها منظمة الصحة العالمية ، فإن الاضطرابات
النفسية منُتشرة بشكل كبير بين عامة الناس ، وقد تتجاوز 20% بين عامة الناس
، إذا أخذنا بعين الاعتبار جميع الاضطرابات النفسية ، بدءًا من الاضطرابات
النفسية البسيطة مثل بعض اضطرابات القلق البسيطة وانتهاءً بالاضطرابات
العقلية الشديدة مثل الفُصام أو الاضطراب الوجداني ثُنائي القطب ، وهناك
تقارير تُشير إلى أن الاضطرابات النفسية والعقلية قد يصل مستواها بين عامة
الناس إلى حوالي 27% ، وبالطبع هذه نسبةٍ عالية.
الاضطرابات النفسية التي
تُصيب الإنسان تؤثر سلباً على مستوى حياته من جميع المناحي
سواء كانت
الحياة الدراسية أو الحياة العملية أو الحياة الزوجية أو علاقة الشخص بمن
هم حوله من اقارب وأصدقاء أو زملاء في العمل. وإذا كانت نسبة معاناة عامة
الناس من الاضطرابات والمشاكل النفسية مرتفعة بهذا المستوى ، فإننا نتوقع
أن يكون بعض ممن هم حولنا ربما يُعانون من مشاكل أو اضطرابات نفسية ، قد
يكون بعض هذه الاضطرابات النفسية بسيطا وبعض الأحيان يكون الوضع سيئا جداً ،
وليس هناك علاقة بين المستوى التعليمي أو المستوى الطبقي ، فالاضطرابات
النفسية تُصيب أشخاصا يحملون شهادات الدكتوراه ، من أطباء ومهندسين وأساتذة
جامعات وكذلك البسطاء من الناس.
يستطيع الشخص المتعلّم أن يحاول ألا تظهر
عليه الاضطرابات النفسية ولكن قد يستطيع إلى حدٍ ما أن يُخفي اضطرابه
النفسي ، ولكن لابد بعد وقتٍ من أن يظهر ويُصبح جلياً للأشخاص المختصين
وحتى غير المختصين بالطب النفسي أو العلوم النفسية.
لقد كان طبيباً مُصاباً
بمرض الفُصام ، واستطاع أن يُداري بقدر ما يستطيع أن يُخفي الأعراض وأن
يُبرر سلوكياته الغريبة للآخرين ، ولكن بعد فترة لم يستطع أن يفعل ذلك ، بل
ان طبيباً ليس له علاقة بالطب النفسي ، وكان يقوم بعمل مقابلة لهذا الطبيب
،لأن هذا الطبيب كان يُريد أن يلتحق ببرنامج تدريبي ، فلاحظ هذا الطبيب
بأن الطبيب الشاب الذي أمامه ليس مستقراً نفسياً وأنه يُعاني من اضطراب
نفسي لا يعلم ماهو
ولكنه طلب من المسؤولين في المستشفى الذي يعمل به هذا
الطبيب من عرضه على طبيب نفسي ليُقرّر مدى صلاحية أن يعمل كطبيب ، وفعلاً
حين قام بتقييمه طبيب استشاري في الطب النفسي وجد أن هذا الطبيب يُعاني من
مرض الفُصام وأنه يُعاني من ضلالات وهلاوس ، فكتب تقريراً بعدم صلاحية هذا
الطبيب للعمل كطبيب ممارس وبالفعل هذا ما تم ، حيث مُنع من ممارسة مهنته
كطبيب وتم تحويله إلى عمل إداري.
وهذا يُبيّن بأن المرض النفسي إذا كان
مُستشرياً لا يمكن إخفاؤه مهما كان الشخص متعلماً أو عارفاً بكيفية تبرير
سلوكياته الغريبة التي يقوم بها وتُثير تساءلات الآخرين. بعض البسطاء
والذين يعملون في وظائف بسيطة ،يكون في بعض الأحيان ثمة صعوبة في كشف بعض
الاضطرابات النفسية إذا كانت الأعراض ليست واضحة بشكلٍ كبير. وقد يستمر مثل
هؤلاء البسطاء يُعانون من الاضطرابات النفسية إلى أن تتفاقم الأمور وتظهر
الأعراض بشكلٍ واضح ، فعندئذ يستدعي عرضه على طبيب نفسي لعلاجه.
رجل في منتصف العمر ، من أسرة ثرية ولاحظ عليه بعض أقاربه بعض السلوكيات
غير المقبولة ، ولكنها لم تفعل شيئاً ، وقام هذا الرجل بإضاعة مبلغ يصل
إلى الملايين في عملية ساذجة ضحك عليه في هذه العملية نصاّبون أفارقة
أوهموه بأنهم سوف يُضاعفون له المبلغ فسلّم لهم مبالغ كبيرة في إحدى الدول
العربية ، وبعدها انتبه أفراد العائلة بأن ابنهم هذا ليس سليماً نفسياً
خاصةً وأن الطريقة التي ضحك بها النصّابون الأفارقة كانت في غاية السذاجة
وتدل على أن ابنهم غير واعٍ تماماً بالتصرفات والسلوكيات التي يقوم بها ،
وبعد ذلك عرضوا ابنهم على طبيب نفسي وتبيّن أن السلوكيات الغريبة التي كان
ابنهم يقوم بها هي نتيجة إصابته بالاضطراب الوجداني ثُنائي القطب ، وأنه قد
قام بعمليات تبذير مبالغ كبيرة لم يكن يعرف عنها الأهل شيئاً.
وبدأت رحلة
علاج شاقة نظراً لأن هذا الرجل رفض الاعتراف بأنه مريض ورفض أخذ العلاج.
ما أريد أن اقوله في هذا المقال بأن هناك الكثيرين من الاشخاص الذين
يعانون اضطرابات أو مشاكل نفسية لا يتعالجون وربما لا يعرف الأشخاص
المحيطون بهم من أقارب أو أصدقاء بأنهم يُعانون من هذه الاضطرابات ، وبذلك
لا يتعالجون وربما يتفاقم الوضع ويعود ذلك على الجميع بنتائج سلبية.